نِساءٌ فی حیاةِ النبی
وهی الصدِّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء سیدة نساء العالمین وقد قامت منه مقام البنت والأم فهی تجهد أن تعوضه بحنانها عما افتقده بأفتقاد أمها خدیجة ، وهی تسعى أن تکون لرسالته کما کانت أمها من قبل ، لم تمنعها حداثة السن عن التعرف إلى جمیع مشاکل أبیها وآلامه مهما کانت المشاکل مهمة ومهما کانت الآلام هائلة ، لم تضعف ولم تهن ولم تتردد او تتراجع ، وقد جاء فی روایة عن ابن مسعود قال : بینما رسول الله یصلی عند البیت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أیکم یقوم الى سلى(1) جزور بنی فلان فیضعه بین کتفی محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فأخذه ، فلما سجد النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) وضعه بین کتفیه فاستضحکوا وجعل بعضهم یمیل على بعض وأنا قائم أنظر ، لو کانت لی منعة لطرحته عن ظهره ، والنبی ساجد لا یرفع رأسه حتى أنطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وطرحته عنه ثمّ أقبلت علیهم تؤنبهم على ذلک .
هذه إحدى الروایات التی تدل على منزلة الصدیقة فی قلب أبیها ومحلها من دعوته ورسالته وکأنها قد شعرت مع حداثة سنها بأنها مسؤولة عن أن تکون المرأة الخامسة فی حیاة رسول الله ( صلى الله علیه وآله وسلم ) فقد واکبت سیره بکل شجاعة وإقدام .
فهی مثال المرأة المسلمة المترفعة عن المواد الدنیویة والصاعدة بروحها وروحیاتها إلى أفق الکمال وسماء العصمة والفضیلة ، فإن النفس البشریة إذا أستنارت بنور الإسلام وإذا نفذت إلى مکنوناتها تعالیمه وحِکمه استغنت بمعنویاتها عن کل ما تحتاج إلیه النفوس الضعیفة من مقومات لشخصیتها .
ونحن الآن لا نکاد نتصور مدى ما کانت تتطلبه من شجاعة ، هی وجمیع المسلمات فی ذلک العصر .
فنحن الآن ، وبعد أن عمت کلمة الإسلام جمیع الأقطار الإسلامیة والحمد لله ، لا تکاد تجرؤ إحدانا أن تجهر بالکلمة الإسلامیة صریحة واضحة ، وکانت الزهراء صلوات الله علیها قد أنصهرت بأفکار الإسلام روحیاً وفکریاً فقد کانت وهی بنت أعظم رجل عرفه التاریخ وریحانته الغالیة والتی کان النبی یدعوها بأم أبیها ویقول : فاطمة بضعة منی من أرضاها فقد أرضانی ومن أغضبها فقد أغضبنی. وکان یقول حینما یقبلها إنی أشم منها رائحة الجنة ، وهی الحوراء الإنسیة ، وکانت عنده بمنزلةٍ ما فوقها منزلة. فکانت آخر من یراه عند سفره وأول من یلقاه عند رجوعه من السفر ، وکانت هی من أنحصر فیها نسله صلوات الله علیه ولم یکن رسول الله ( صلى الله علیه وآله وسلم ) یجهل ذلک .
نعم کانت هی هکذا وکانت أکثر من هذا ولکنها ومع کل هذه الممیزات الروحیة والمعنویة کانت بسیطة فی إسلوب حیاتها لا تکاد تختلف عن أی أمرأة فقیرة ، فبیتها متواضع للغایة لا یحوی إلاّ النزر القلیل من الأثاث الضروری الذی لا یمکن الأستغناء عنه .
فهی مثال المرأة المسلمة المترفعة عن المواد الدنیویة والصاعدة بروحها وروحیاتها إلى أفق الکمال وسماء العصمة والفضیلة ، فإن النفس البشریة إذا أستنارت بنور الإسلام وإذا نفذت إلى مکنوناتها تعالیمه وحِکمه استغنت بمعنویاتها عن کل ما تحتاج إلیه النفوس الضعیفة من مقومات لشخصیتها .
نعم هکذا کانت فاطمة الزهراء وهی ریحانة النبوة وزهرة الهاشمیین فتاة ترعرعت فی أحضان الأبوة الرحیمة ، وهکذا کانت هی عروس تزف إلى أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (علیه السلام )، فقد خطبت إلى أبیها من قبل کثیرین کان منهم أکابر الصحابة والرسول یردهم بشتى الحجج والمعاذیر ویقول لهم أنه ینتظر فیها أمر السماء فقد کان صلوات الله علیه یعلم أن نسله قد أنحصر فی فاطمة ، وأن فاطمة وبعلها وأبناءها هم الذین سوف یکونون الامتداد لرسالته ولدعوته السماویة، ولهذا فقد کان ینتظر الرجل الجدیر بتحمل هذه المسؤولیة فلم یکن یتوخى فی زواجها مالاً ولا ثراءً ولکنه کان ینتظر لها الکفء.
وفی یوم مبارک ، وبعد أن کان النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) قد رد کل من تقدم لخطبة الزهراء وبما فیهم أبو بکر وعمر ، أقبل علی أمیر المؤمنین علیه السلام الى رسول الله ( صلى الله علیه وآله وسلم ) کما کان یقبل ، فیحییه ویجلس الیه کما کان یجلس ، ولکن الرسول یحس أن أبن عمه قادم لأمر هام وقد عرف ذلک بفراسته الشخصیة وبالإیجاء النبوی ، فیقبل علیه وهو یسأله متلطفاً مشجعاً وکله حب وحدب على الشاب العزیز الجالس أمامه ، هذا الشخص الغالی الذی آخاه وأصطفاه والذی فتح له قلبه رضیعاً ومهد له بیته صبیاً .
وها هو الآن یوشک أن یسلمه أغلى شیء عنده وأعزمخلوقة علیه ، ثمّ یقول : ما حاجة ابن أبی طالب وما الذی یشغل فکرک یا ابن العم ؟ وکانت هذه الکلمات الرحیمة هی التی شجعت أبن عم الرسول على أن یقول بصوت خفیضٍ وهو یغض بصره أمام رسول الله( صلى الله علیه وآله وسلم) .
قال : ذکرت فاطمة بنت رسول الله ، ثمّ یسکت ولا یقوى على الإفاضة أکثر مما قال ، فیجیبه الرسول وهو على ما علیه من بشر ورقَّةٍ لا متناهیة مرحباً وأهلاً . ویسکت لحظة لیعود فیسأله حدباً مشفقاً وهل عندک شیء ؟ فیجیبه علی وهو لا یزال مغضٍ ببصره إلى الأرض ، لا یا رسول الله.
فیمسک الرسول لحظة ثمّ یتذکر أن علیاً أصاب درعاً من مغانم بدر فیعود لیسأله أین درعک الذی أعطیتک إیاه یوم کذا ؟ فیجیب علی وقد غلبه التأثر لما یلقى من بِرِّ النبی ورعایته وما یلمس من روح ابن عمه وصفائها وهو یعلم أنه جاء یخطب إلى النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) فاطمة التی هی أعز مخلوقة عند رسول الله ، فیجیب : هی عندی یا رسول الله، فیقوم النبی صلوات الله علیه ثمّ یدخل على أبنته الغالیة لیرى رأیها فیما یطلبه أبن عمه وأخوه ویقول لها متلطفاً رفیقاً باراً : یا عزیزة أبیها الغالیة لقد ذکرک أبن عمک علی فما رأیک فی هذا یا بنتاه ، والزهراء کانت تعرف ابن عمها علیاً ، وتعرفه کما لا یعرفه غیرها من الناس.
فهو سیف أبیها ودرعه والفادی له بنفسه ، والبائت على فراشه ، وحامل لوائه ، هذا عدا أنها کانت تسمع دائماً مدحه والإعجاب فیه من رسول الله ( صلى الله علیه وآله وسلم ) ، وکانت تشعر دائماً وأبداً أن أبن عمها علیاً هو أقرب المسلمین للرسول وأحبهم إلیه وهی الآن على ثقة من أن رسول الله (ص) راغب فی هذا محبذ له ، وإلاّ فما کان لیسألها عن رأیها فیه ، فما أکثر ما خطبت الى أبیها قبل الیوم وکان یردهم دون أن یسألها عن رأیها فی الخطاب ، وعلى هذا ولکونه جاء لیرى رأیها فی علی بن أبی طالب ، عرفت الزهراء صلوات الله علیها رأی أبیها فی علی وفی هذه الخطبة ، ولکنها مع هذا تسکت ولا تتمکن أن تجیب ، فما عساها أن ترد على رسول الله ( صلى الله علیه وآله وسلم ) وحیاؤها العذری یمنعها من التصریح بما ترید ، ورضاؤها بهذا الخاطب وقبولها لهذه الخطبة یمنعانها من الرفض فتطرق إلى الأرض ولا تجیب .
والرسول ( صلى الله علیه وآله وسلم ) فی کل هذا یتطلع إلیها ویقرأ ما ینطبع على ملامحها من أحاسیس وأنفعالات ویشعر أنها راضیة ، ویحس أنها مرتاحة مسرورة فیقوم وهو متهلل الوجه ، باسم الثغر ویقول : سکوت الباکر علامة رضاها ، فلا ترد علیه ولا تعترض ، فیبتسم ویخرج إلى أبن عمه لیخبره برضاء الزهراء ویقول له : أین الدرع یا علی ؟ فیذهب علی مسرعاً ویأتی بالدرع فیأمره النبی أن یبیعها لیجهز العروس بثمنها ، وقد أشتراها عثمان بأربع مائة وسبعین درهماً حملها علی صلوات الله علیه ووضعها أمام الرسول ، فتناولها بیده الکریمة ثمّ دفعها إلى بلال لیشتری ببعضها طیباً وعطراً ویدفع الباقی إلى أم سلمة لتشتری جهاز العروس ، ثمّ یجمع النبی صحابته وآله ویشهدهم أنه زوج ابنته فاطمة من أبن عمه علی بن أبی طالب على أربع مائة مثقال من الفضة على السُّنة القائمة والفریضة الواجبة ثمّ قدم للضیوف حلوى العرس الهاشمی النبوی وهو وعاء تمر .
على هذا النمط البسیط وعلى هذا النحو القدسی تمت خطبة الزهراء بنت رسول الله إلى أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب ، وتأخر الزفاف إلى الوقت الذی یتم فیه جهاز العروس ویهیأ بیت العریس.
نعم هکذا بکل بساطة تمت خطبة أعظم خطیبین ، فالزهراء عندما خطبت لابن عمها لم تکن تفکر فی شیء مما یشغل أفکار غیرها من العرائس ، لم تکن تهتم بما یملک عریسها من مال وما یهیأ لها من أثاث وریاش ، لم تکن تحفل بالسفاسف من الأمور کأن تکون خطبتها رسمیة عامة شاملة تعمر بالترف والبذخ ، لم تکن تحفل بکل هذه الأمور الدنیویة فهی أبنة رسول الله وابنة خدیجة الکبرى .
أولیست أمها هی التی بذلت المال رخیصاً فی سبیل العقیدة ؟ أولیست أمها هی التی استبدلت القصر الشامخ بالبیت المتواضع والترف الزاهی بشظف العیش ومره ؟
وها هی أبنتها فاطمة تُخطب إلى علی أمیر المؤمنین بهذه الروعة اللامتناهیة التی کونتها هذه البساطة فی الخطبة ، فالإمام علی کان یخطب شخص الزهراء بنت رسول الله ، والزهراء صلوات الله علیها قبلت بالزواج حباً بعلی وبشخصه لا غیر ، فلولا أن خاطبها کان غیر علی بن أبی طالب لما رضیت أن تفارق أباها وبیته إلى أی زوج کان ، ولکنها کانت تعلم أنها بزواجها من علی بن أبی طالب تتقرب إلى أبیها وإلى رسالته أکثر منها قبل الزواج ، وأنها إذا قرنت حیاتها بحیاة علی تمکنت أن تسند علیاً بجهادها الإسلامی وأن ترکز جهاد أبن عمها بمؤازرتها له ، ولذلک فقد تلقت عرض الزواج بکل ارتیاح .
وإنی لأعجب لما کتبته الدکتورة بنت الشاطیء فی کتاب بنات النبی ، وما عللت فیه رضاء الزهراء بعلی بن أبی طالب وما بینته فی أسلوب هو أقرب الى الخیال القصصی منه إلى الواقع .
فقد کان الاضطهاد والشرک والظلم قد خف وتلاشى فی المدینة ، ولما علت کلمة الإِسلام اطمأنت الزهراء على أبیها وعلى راحته النفسیة ثم أنها حینما کانت ترفض الزواج کانت ترفضه لکی لا تخرج من حیاة أبیها ولکی لا تبعد عن رحابه وعرینه ، وزواجها بعلی کما کانت تعلم واثقة أنه سوف یقربها لأبیها ویدنیها إلیه أکثر وأکثر ، وأنها لن تترک بیت أبیها بل ستکوِّن لأبیها بیتاً جدیداً هو بیتها الذی یضمها وابن عمها علی بن أبی طالب. وفعلاً فقد کان رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یقرأ هذه الآیة الکریمة کلما مر على باب فاطمة وعلی : ( ... إنما یُرید الله لیذهبَ عنکم الرجٌسَ أَهل البیت ویُطهَّرکم تطهیراً ) الآحزاب/33 ، صدق الله العظیم .
وقد عرفت الزهراء کل هذا ولأجل هذا رضیت بابن عمها وآثرت بیته على البقاء فی بیت أبیها ، ولا دخل لآی امرأة من نساء النبی فی زواجها ودواعیه ، وإنما أعرضت عن الزواج لعدم وجود الکفء ، وأقدمت علیه بعد أن وثقت من کفاءة الزوج.
ولا أدری کیف سمحت الدکتورة بنت الشاطیء لنفسها أن تفسر قبول فاطمة للزواج بدخول عائشة فی حیاة النبی ، وتقلص مکانة البنت فی قلب أبیها ، هذه البنت التی کانت کل شیء لآبیها فی قلبه وحیاته ، وقد جاء فی الاستیعاب عن السیدة عائشة نفسها أنها سُئلت أی الناس کان أحب إلى رسول الله ؟ قالت : فاطمة فسُئلت : فمن الرجل ؟ قالت : زوجها ، وجاءت هذه الروایة أیضاً عن الترمذی : وفی الاستیعاب بسنده عن ابن بریدة عن أبیه ، وفی المستدرک بسنده عن جمیع بن عمیر وصعصعة ، وقد رواه الترمذی بسنده عن بریدة مثله ، وروی الحاکم فی
المستدرک وصححه بسنده عن جمیع بن عمیر قال : دخلت مع أمی على عائشة فسمعتها من وراء الحجاب وهی تسألها عن علی فقالت تسألیننی عن رجل والله ما أعلم رجلاً کان أحب إلى رسول الله ( صلی الله علیه وآله وسلم ) من علی ، ولا فی الأرض امرأة کانت أحب إلى رسول الله من امرأته فاطمة ؟ وقد کان رسول الله یکرر دائماً أن فاطمة بضعة منی یریبنی ما رابها ویؤذینی ما آذاها وأن فاطمة شجنة منی ، یبسطنی ما یبسطها ویقبضنی ما یقبضها إلى غیر ذلک من الروایات الکثیرة الواضحة.
الهوامش:
1- السلى : جمعها أسلاء ، جلدة یکون ضمنها الولد فی بطن أمه إذا أنقطع فی البطن هلکت الأم والولد ، یقال : « انقطع السَّلى فی البطن » أی ذهبت الحیلة وعظم الویل
مصدر: المرأة مع النبی « صلى الله علیه وآله » فی حیاته و شریعته
تألیف: الشهیدة بنت الهدى