نِساءٌ فی حیاةِ النبی
ونشطت أم سلمة لکی تجهز العروس الغالیة فاشترت لها قمیصاً بسبعة دراهم وخماراً بأربعة دراهم وقطیفة سوداء خیبریة وسریراً مزملاً بشریط وفراشین من خیش حَشوُ أحدهما لیف ، وحَشوُ الآخر من صوف الغنم ، وأربع مرافق من أدم الطائف حَشوُها إذخر ، وستراً رقیقاً من صوف ، وحصیراً هجریاً ورحى للید ومخضباً من نحاس ، وهو إناء تغسل فیه الثیاب ، وسقاءاً من أدم وقبساً للبن وشناً للماء ومطهرة مزفتة ، وجرة خضراء وکوزاً من خزف ونطعاً من أدم وعباءة قطوانیة وقربة ماء. ولما أتمت أم سلمة هذا الجهاز البسیط الرائع روعة قدسیة لا متناهیة ، جاءت إلى رسول الله صلوات الله علیه فجعل یقلبه بیده الکریمة وهو یقول : بارک الله لأهل البیت، ثم إنه رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم بارک لقوم جل أنیتهم الخزف، وفی بعض الروایات أنه استعبر وبکى وهو یقلب جهاز حبیبته المتواضع، وکان العریس مشغولاً بدوره أیضاً یجهز بیته ویهیِّئُهُ لاستقبال ابنة رسول الله، وکان جهاز الإِمام صلوات الله علیه أن نشر رملاً لیناً فی صحن الدار ونصب خشبة من حائط إلى حائط للثیاب وبسط إهاب کبش ومخدة لیف : وفی روایة ابن سعد عن بعض من حضرن عرس فاطمة قلن : دخلنا البیت مع العروس فإذا إهاب من شاة على مصطبة ووسادة فیها لیف وقربة ومنخل ومنشفة وقدح ، وهذا ما روی عن أثاث أمیر المؤمنین وهو فی طریقه لمصاهرة رسول الله.
وعندما أتم الإِمام تجهیز بیته وتهیئته ، وعلم أصحابه أنه قد أکمل ذلک قال له جعفر وعقیل : ألا تسأل رسول الله یدخل علیک أهلک ؟ فقال لهم : الحیاء یمنعنی من ذلک ، فقاما عنه ولقیا أم أیمن مولاة رسول الله فذکرا لها ذلک فدخلت إلى أم سلمة فأعلمتها وأعلمت نساء النبی أن علیاً قد أتم تجهیز بیته ، وهو یرغب أن ینقل إلیه أهله ، فاجتمعن عند رسول الله وقلن : فدیناک بآبائنا وأمهاتنا یا رسول الله إنا قد اجتمعنا لأمر لو کانت خدیجة فی الأحیاء لقُرَّت عینها به ، وروی عن أم سلمة أنها قالت لما ذکرنا له خدیجة بکى رسول الله وقال : خدیجة وأین مثل خدیجة ، صدقتنی حین کذبنی الناس ووازرتنی على دین الله وأعانتنی علیه بمالها ، إن الله عز وجل أمرنی أن أبشر خدیجة ببیت فی الجنة من قصب الزمرد لا صخب فیه ولا نصب .
وقالت أم سلمة فدیناک بآبائنا وأمهاتنا إنک لم تذکر من خدیجة أمراً إلا وقد کانت کذلک غیر أنها قد مضت إلى ربها فهنأها الله بذلک وجمع بیننا وبینها فی الجنة ، یا رسول الله هذا أخوک وابن عمک علی بن أبی طالب یحب أن تدخل علیه زوجته ، فقال النبی : حباً وکرامة ، ثم إنه دعا بعلی فدخل وهو مطرق حیاءاً وقامت أزواج النبی ودخلن البیت فسأله النبی أتحب أن أدخل علیک أهلک فأجاب علی وهو مطرق : أجل فداک أبی وأمی ، فقال : أُدخلها علیک إنشاء الله، ثم قام إلى نسائه وأمرهن أن یزین فاطمة ویطیبنها ویصلحن من شأنها فی حجرة أم سلمة وأن یفرشن لها بیتها الذی هیأه ابن عمها.
فدبت الحرکة فی بیت النبوة وعمت الفرحة على وجوه أهل البیت وشاعت ابتسامة محببة على وجه الرسول وهو یرى نفس الابتسامة قد غمرت وجه ابن عمه وأخیه وغمرت قلب الرسول موجة من رضاء لما آنسه على ابن عمه من لهفة وشوق ولما أحس به من نشاط حیوی شاع على علی فی حرکاته وتصرفاته ، وفُرش بیت العروس الجدید وزُیِّنت العروس وطُیِّبت ونُحرت الذبائح وأُطعم الطعام ، وأمر النبی صلى الله علیه واله وسلم أن ینادی على رأس داره : أجیبوا رسول الله ، فبسط النطوع فی المسجد وصدر الناس وهم أکثر من أربعة آلاف رجل وامرأة رفعوا ما أرادوا ولم ینقص من الطعام شیء ، ثم دعا رسول الله بالصحائف فملئت ، ووجهها إلى منازل أزواجه ثم أخذ صحفةً فقال هذه لفاطمة وبعلها وبعد أن أکل الناس وشبع کل جائع أتى رسول الله ببغلته الشهباء ، وثنى علیها قطیفة وجاء إلى فاطمة الزهراء وهی بین نساء المسلمین وقد هیأنها للزفاف ، وأخذ بیدها وقال لها ارکبی ثم ساعدها على الرکوب وأمر سلمان أن یقود البغلة وسار صلوات الله علیه خلفها ومعه حمزة وجعفر وعقیل وبنو هاشم کلهم مشهرین سیوفهم وهم یکبرون ویهللون. ومشت نساء النبی وراء العروس وهن یرجزن ویکبرن ، ونساء المسلمین من حولهن یتلون الأشعار فی مدح العروسین حتى دخلن الدار المبارکة ، وأنفذ رسول الله إلى علی فدعاه وأخذ بید فاطمة فوضعها فی یده وقال بارک الله لک فی ابنة رسول الله ثم جمعهما إلى صدره وقبل بین أعینهما ، وقال لعلی : یا علی نعم الزوجة زوجتک ، ولفاطمة : یا فاطمة نعم البعل بعلک ، ثم دعا بماء فأخذ منه جرعة فتمضمض بها ثم مجها فی القصب وصب منه على رأسها ونضح على صدرها وفعل بعلی مثل ذلک وقال : اللهم بارک فیهما وبارک علیهما وبارک لهما فی نسلهما ثم أنه قام لینصرف فلم تملک فاطمة الزهراء دمعها ولحظ ذلک أبوها فتمهل برهة ثم قبلها فی حنو .
وقال أنه ترکها ودیعة عند أقوى الناس إیماناً وأکثرهم علماً وأفضلهم أخلاقاً وأعلاهم نفساً ، ثم انصرف وهو یدعو للعروسین وکانت أطیاف خدیجة فی تلک الساعة تعاوده ملحاحة ، فقد شعر فی تلک اللیلة بفراغ لخدیجة عجز حتى هو أن یسده بالنسبة لابنتهما الغالیة ، وما أکثر ما کان یشعر بهذا الفراغ فی شتى المناسبات والظروف ، وبهذا بدأت الزهراء حیاتها الجدیدة فی بیت الزوجیة السعید ، البیت الذی شهد أسعد مناسبات أهل بیت النبوة ، وأصبح مصدراً لإشعاعات الرسالة ومنبعاً زاخراً بالخیر والبرکة وقد تلاشت القیم المادیة فی أرجائه حتى استحالت إلى لا شیء وتعالت المثل الروحانیة فیه فأصبحت کل شیء .
مصدر: المرأة مع النبی « صلى الله علیه وآله » فی حیاته و شریعته
تألیف: الشهیدة بنت الهدى
المراة الخامسة فی حیاة النبی(1)
المراة الرابعة فی حیاة النبی(1)
المراة الرابعة فی حیاة النبی(2)
المراة الثالثة فی حیاة النبی