بعد وفاة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) اشتدَّ علیها الحزن و الأسى ، و نزل بها المرض ، لِمَا لاقَتْهُ من هجوم أَزْلامِ الزُمرة الحاکمة آنذاک على دارها ، وَ عَصْرِهَا بَین الحَائطِ و البَابِ ، وَ سُقُوطِ جَنِینِها ، المُحسِن ( علیه السلام ) ، وَ کَسْرِ ضِلعِها ، وَ غَصبِ أَرضِهَا ( فَدَک ) .
فتوالت الأمراض على ودیعة النبی ( صلى الله علیه وآله ) ، و فَتک الحزن جِسمَها النحیلَ المُعذَّبَ ، حتى انهارت قواها ( علیه السلام ) .
فقد مشى إلیها الموت سریعاً ، و هی ( علیها السلام ) فی شبابها الغَض ، و قد حان موعد اللقاء القریب بینها ( علیها السلام ) ، و بین أبیها ( صلى الله علیه وآله ) الذی غاب عنها ، و غابت معه عواطفه الفَیَّاضة .
وَ لَمَّا بدت لها طلائع الرحیل عن هذه الحیاة ، طَلَبتْ حضورَ
أمیر المؤمنین ، علی ( علیه السلام ) ، فَعَهدتْ إلیهِ بِوَصِیَّتِها ، و مضمون الوصیة :
أن یُوارِی ( علیه السلام ) ، جثمانها ( علیها السلام ) المقدس فی غَلس اللَّیل البهیم ، و أن لا یُشَیِّعُها أحد من الذین هَضَمُوهَا ، لأنهم أَعداؤها ( علیها السلام ) ، و أعداء أبیها ( صلى الله علیه وآله ) - على حَدِّ تعبیرها - .
کَما عَهدت إلیه ، أن یتزوَّج من بعدها بابنة أختها أمَامَة ، لأنَّها تقوم بِرِعَایَة ولدیها
الحسن و الحسین ( علیهما السلام ) اللَّذَین هما أعزُّ عندها من الحیاة .
وعهدت إلیه ، أن یعفی موضع قبرها ، لیکون رمزاً لِغَضَبِهَا غیر قابلٍ للتأویل على مَمَرِّ الأجیال الصاعدة .
وضمن لها أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) جمیع ما عَهدَت إلیه ، و انصرف عنها ( علیها السلام ) ، و هو غارق فی الأسى و الشجون .
و فی آخر یوم من حیاتها ( علیها السلام ) ، ظهر بعض التحسّن على صحتها ، بادیة الفرح و السرور ، فقد علمت ( علیها السلام ) ، أنها فی یومها تلحق بأبیها ( صلى الله علیه وآله ) .
و عمدت ( علیها السلام ) إلى ولدیها ( علیهما السلام ) فَغَسَلت لهما ، و صنعت لهما من الطعام ما یکفیهم یومهم ، و أمرت ولدیها بالخروج لزیارة قبر جدّهما ، و هی تلقی علیهما نظرة الوداع ، و قلبها یذوب من اللوعة والوجد .
فخرج الحسنان ( علیهما السلام ) ، و قد هاما فی تیار من الهواجس ، و أَحسَّا ببوادر مخیفة ، أغرقتهما بالهموم و الأحزان ، و التفت ودیعة النبی ( صلى الله علیه وآله ) إلى أسماء بنت عمیس ، و کانت تتولى تمریضها ، و خدمتها فقالت ( علیها السلام ) لها : یا أُمَّاه .
فقالت أسماء : نعم یا حبیبة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) .
فقالت ( علیها السلام ) : اسکبی لی غسلاً .
فانبرت أسماء ، و أتتها بالماء فاغتسلت ( علیها السلام ) فیه ، و قالت ( علیها السلام ) لها ثانیاً : إیتینی بثیابی الجدد .
فناولتها أسماء ثیابها ( علیها السلام ) .
ثم هتفت الزهراء ( علیها السلام ) ، بها مرة أخرى : اجعلی فراشی وسط البیت .
و عندها ذعرت أسماء ، و ارتعش قلبها ، فقد عرفت أن الموت قد حلّ بودیعة النبی ( صلى الله علیه وآله ) .
فصنعت لها ما أرادت ، فاضطجعت الزهراء ( علیها السلام ) على فراشها ، و استقبلت القبلة ، و التفتت إلى أسماء قائلة بصوت خافت : یا أُمَّاه ، إنی مقبوضة الآن ، و قد تَطَهَّرتُ فلا یکشفنی أحد .
و أخذت ( علیها السلام ) تتلو آیات من الذکر الحکیم ، حتى فارقت الروحُ الجسد ، وَ سَمت تلک الروح العظیمة إلى بارئها ، لتلتقی بأبیها ( صلى الله علیه وآله ) ، الذی کرهت الحیاة بعده .
و کان ذلک فی ( 13 من جمادی الأول ) من سنة ( 11 هـ ) ، و فی روایة أخرى أنه کان فی ( 13 ربیع الثانی ) من نفس السنة ، و فی روایة أخرى فی ( 3 جمادی الثانی ) من نفس السنة أیضاً .
و رجع الحسنان ( علیهما السلام ) إلى الدار ، فلم یجدا فیها أمهما ( علیها السلام ) ، فبادرا یسألان أسماء عن أمّهما ، ففاجئتهما ، و هی غارقة فی العویل و البکاء قائلة : یا سیدی إن أمّکما قد ماتت ، فأخبرا بذلک أباکما ، و کان هذا الخبر کالصاعقة علیهما .
فهرعا ( علیهما السلام ) مسرعین إلى جثمانها ، فوقع علیها الحسن ( علیه السلام ) ، و هو یقول : یا أُمَّاه ، کلمینی قبل أن تفارق روحی بدنی .
وألقى الحسین ( علیه السلام ) نفسه علیها ،و هو یَعجُّ بالبکاء قائلاً : یا أُمَّاه ، أنا ابنک الحسین کلمینی قبل أن ینصدع قلبی .
و أخذت أسماء تعزیهما وتطلب منهما أن یسرعا إلى أبیهما ( علیه السلام ) فیخبراه ، فانطلقا ( علیهما السلام ) إلى مسجد جدّهما رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) وهما غارقان فی البکاء ، فلما قربا من المسجد رفعا صوتهما بالبکاء ، فاستقبلهما المسلمون وقد ظنوا أنهما تذکرا جدّهما ( صلى الله علیه وآله ) فقالوا :
ما یبکیکما یا ابنَی رسول الله ؟ لعلّکما نظرتما موقف جدّکما ( صلى الله علیه وآله ) فبکیتما شوقاً إلیه ؟
فهرعا ( علیهما السلام ) إلى أبیهما وقالا بأعلى صوتهما : أَوَ لیس قد ماتت أُمُّنا فاطمة .
فاضطرب الإمام أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) ، وهزَّ النبأ المؤلم کِیانَه ، وطفق یقول :
بمن العزاء یا بنت محمد ( صلى الله علیه وآله ) ؟
کنتُ بِکِ أتعزَّى ، فَفِیمَ العزاء من بعدک ؟
وخَفَّ ( علیه السلام ) مسرعاً إلى الدار وهو یذرف الدموع ، ولما ألقى نظرة على جثمان حبیبة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) أخذ ینشد ( علیه السلام ) :
لِکُلِّ اجتِمَاعٍ مِن خَلِیلَیْنِ فِرقَةٌ وَکُلُّ الَّذی دُونَ الفِرَاقِ قَلیلُ
وَإِنَّ افتِقَادِی فَاطماً بَعدَ أَحمَد دَلِیلٌ عَلى أَنْ لا یَدُومَ خَلِیلُ
وهرع الناس من کل صوب نحو بیت الإمام ( علیه السلام ) وهم یذرفون الدموع على ودیعة نبیهم ( صلى الله علیه وآله ) ، فقد انطوت بموت الزهراء ( علیها السلام ) آخر صفحة من صحفات النبوة ، وتذکروا بموتها عطف الرسول ( صلى الله علیه وآله ) علیهم ، وقد ارتَجَّت المدینة المنورة من الصراخ والعویل .
وعهد الإمام ( علیه السلام ) إلى سَلمَان أن یقول للناس بأن مواراة بضعة النبی ( صلى الله علیه وآله ) تأخّر هذه العشیة ، وتفرقت الجماهیر .
ولما مضى من اللیل شَطرُهُ ، قام الإمام ( علیه السلام ) فغسَّل الجسد الطاهر ، ومعه أسماء والحسنان ( علیهما السلام ) ، وقد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم .
وبعد أن أدرجها فی أکفانها دعا بأطفالها – الذین لم ینتهلوا من حنان أُمِّهم – لیلقوا علیها النظرة الأخیرة ، وقد مادت الأرض من کثرة صراخهم وعویلهم ، وبعد انتهاء الوداع عقد الإمام الرداء علیها .
ولما حَلَّ الهزیع الأخیر من اللیل قام ( علیه السلام ) فصلّى علیها ، وعهد إلى بنی هاشم وخُلَّصِ أصحابه أن یحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخیر .
ولم یخبر ( علیه السلام ) أی أحد بذلک ، سوى تلک الصفوة من أصحابه الخُلَّص وأهل بیته ( علیهم السلام ) .
وأودعها فی قبرها وأهال علیها التراب ، ووقف ( علیه السلام ) على حافة القبر ، وهو یروی ثراه بدموع عینیه ، واندفع یُؤَبِّنها بهذه الکلمات التی تمثل لوعته وحزنه على هذا الرزء القاصم قائلاً :
( السَّلام عَلیکَ یا رسولَ الله عَنِّی وعنِ ابنَتِک النَّازِلَة فی جوارک ، السریعة اللحاق بک ، قَلَّ یا رسولَ الله عن صَفِیَّتِک صَبرِی ، وَرَقَّ عنها تَجَلُّدِی ، إِلاَّ أنَّ فی التأسِّی بِعظِیم فرقَتِک وَفَادحِ مُصِبَیتِک مَوضِعَ تَعَزٍّ ، فَلَقد وَسَّدتُکَ فِی مَلحُودَةِ قَبرِک ، وَفَاضَت بَینَ نَحری وصَدرِی نَفسُکَ .
إِنَّـا لله وإنَّا إلیه راجعون ، لقد استُرجِعَتْ الوَدیعةُ ، وأُخِذَتْ الرَّهینَة ، أمَّا حُزنِی فَسَرْمَدْ ، وَأمَّا لَیلِی فَمُسَهَّدْ ، إلى أَنْ یختارَ اللهُ لی دارَک التی أنتَ بِها مُقیم ، وَسَتُنَبِّئُکَ ابنتُکَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِکَ على هَضمِها ، فَاحفِهَا السُّؤَالَ ، واستَخبِرْهَا الحَالَ ) .
فأعلن أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) فی هذه الکلمات شکواه للرسول ( صلى الله علیه وآله ) على ما أَلَمَّ بابنتِه من الخطوب والنکبات ، وطَلبَ ( علیه السلام ) منه ( صلى الله علیه وآله ) أن یَلحَّ فی السُؤال منها ( علیها السلام ) ، لتخبِرَهُ ( صلى الله علیه وآله ) بما جرى علیها ( علیها السلام ) من الظُلم والضَیم فی تلک الفترة القصیرة الأمد التی قد عاشتها ( علیها السلام ) .
وعاد الإمام ( علیه السلام ) إلى بیته کئیباً حزیناً ، ینظر إلى أطفاله ( علیهم السلام ) وهُم یبکون على أُمِّهم ( علیها السلام ) أَمَرَّ البکاء .