مما لا شک فیه أن نبی الهدى محمد ( صلى الله علیه وآله ) : ( لاَ یَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْیٌ یُوحَى ) ، ( النجم : 3 - 4 ) .
فما یصدر منه مع خاصَّة أهله مما فیه المیزة على ذوی قرباه ، و أمته منبعث عن سِرٍّ إلهی ، رُبَّما یقصر العقل عن إدراکه .
و قد ورد عنهم ( علیهم السلام ) فی المتواتر من الآثار : ( حدیثُنا صَعبٌ مُستَصْعَب ، لا یتحمَّلُهُ إلا مَلَکٌ مُقرَّب ، أو نَبیٌّ مُرسَل ، أو عَبدٌ امتحَنَ اللهُ قَلبَهُ بِالإِیمَان ) .
فما ورد فی الروایات من ممیِّزات آل الرسول ( صلى الله علیه وآله ) – مما لا تحیله العقول – لا یُرمى بالإعراض ، بعد إمکان أن یکون له وجه ، یظهره المستقبل الکَشَّاف .
و على هذا فما ورد فی الآثار المستفیضة بین السُّنَّة و الشیعة من فعل النبی ( صلى الله علیه وآله ) مع ابنته فاطمة الزهراء ( علیها السلام ) من الإکثار فی تقبیل وجهِها ، حتى أنکَرَت علیه بعض أزواجه فقال ( صلى الله علیه وآله ) رَادّاً علیها : ( و ما یَمنَعُنی من ذلک ، وَ إنِّی أَشَمُّ منها رائحة الجَنَّة ، و هی الحَوراء الإِنسِیَّة ) .
و کان ( صلى الله علیه وآله )، یقوم لها إن دَخَلَتْ علیه ، مُعَظِّماً وَ مُبَجِّلاً لها ، و إذا سافرَ ( صلى الله علیه وآله ) ، کانَ آخرُ عَهدِهِ بإنسانٍ مِن أهلِه ابنتَهُ فاطمة ( علیها السلام ) ، و إذا رجع من السفر فأوَّل مَا یَبتدِئُ بِها .
و قال ( صلى الله علیه وآله ) ، وقد أخذ بیده الشریفة الحسنین ( علیهما السلام ) : ( مَن أحَبَّنِی ، وَ هَذَین ، و أبَاهُما و أُمَّهُمَا کان مَعی فی دَرَجَتِی یَوم القِیامَة ) .
و کان ( صلى الله علیه وآله ) یقف عند الفجر على باب فاطمة ( علیها السلام ) ستة أشهر بعد نزول آیة التطهیر ، یُؤذَّنهم للصَّلاة ثم یقول : ( إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُذهِبَ عَنکُمِ الرِّجْسَ أَهلَ البَیتِ ، وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطهِیراً ) ، ( الأحزاب 33 ) .
و قال ( صلى الله علیه وآله ) لفاطمة ( علیها السلام ) : ( یا بُنَیَّة ، مَن صَلَّى عَلیک غَفَر اللهُ لَهُ ، و أَلحَقَهُ بی حَیثُ کنتُ من الجَنَّة ) .
و قال ( صلى الله علیه وآله ) أیضاً : ( أَنَا حَربٌ لِمَن حَارَبَهُم ، وَ سِلمٌ لِمَن سَالَمَهُم ، وَ عَدُوٌ لِمَن عَادَاهُم ) .
و قال ( صلى الله علیه وآله ) أیضاً : ( فَاطِمَةٌ بضعَةٌ مِنِّی ، یُؤذِینَی مَا آذَاهَا ، وَ یُرِیبُنِی مَا رَابَهَا ) .
و قال ( صلى الله علیه وآله ) أیضاً : ( إِنَّ فَاطمةَ بضعَةٌ مِنِّی ، یُغضِبُنِی مَن أَغضَبَهَا ) .
و إلى غیر ذلک من کلماته الشریفة ، التی تنمُّ عَمَّا حَباها المُهَیمِن جَلَّ شَأنُه من ألطاف و مزایا اختصَّت ( علیها السلام ) بها دون البشر ، و کیف لا تکون کذلک ، و قد اشتُقَّت من النور الإلهی الأقدس .
و لقد عَلِمنا من مقام النبوة ، و مِمَّا ورد فی نصوص السُّنَّة النبویة و العَلَوِیَّة ، أنَّ النبی ( صلى الله علیه وآله ) لم یُحِبْ أحداً لِمَحضِ العاطفة ، أو واشجة القُربى .
فما یلفظه ( صلى الله علیه وآله ) من قول ، أو ینوء به من عمل ، و لا سیما فی أمثال المقام ، لا یکون إلا عن حقیقة راهنة ، و لیس کمن یحدوه إلى الإطراء المیول و الشهوات .
فما صدر منه ( صلى الله علیه وآله ) من خصائص الصدیقة الطاهرة ( علیها السلام ) لا یکون ، إلا عن وحی یحاول أن یرفع مستواها عن مستوى البشر أجمع .
فالرسول الأعظم ( صلى الله علیه وآله ) لم یصدع إلا بحقائق راهنة ، جعلتها یَدُ المشیئة ، حیث أجرت علیها سَیلَ الفضلِ الرُّبُوبِی ، فهی نماذج عن الحقیقة المُحَمَّدیة المجعولة حلقة بین المبدأ و المنتهى ، و رابطة بین الحدیث و القدیم .
و بالنسبة إلى آیة التطهیر : ( إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُذهِبَ عَنکُمِ الرِّجْسَ أَهلَ البَیتِ ، و َیُطَهِّرَکُمْ تَطهِیراً ) ، ( الأحزاب 33 ) .
فقد اتفقت آراء المفسرین و أرباب الحدیث و التاریخ على أنها ، نزلت فیمن اشتمل علیهم الکِسَاء . و هم ؛ النَّبیُّ الأعظمُ مُحَمَّدٌ ( صلى الله علیه وآله ) ، وَ وَصیَّهُ المُقَدَّمُ ، عَلِیٌّ بن أبی طالب أمیرُ المؤمنین ( علیه السلام ) ، و ابنَتُهُ فَاطِمَةُ الزهراءِ ( علیها السلام ) ، وَ سِبطَاهُ سَیِّدَا شباب أهل الجَنَّة ، الحَسَنِ و الحُسَیْنِ ( علیهما السلام ) .
ولم یُخْفَ المُرادُ من الرِّجسِ المَنفِی فی الآیة الکریمة بعد أن کانت وَارِدَة فی مقام الامتنان و اللُّطف بمن اختصَّت بهم .
فإِنَّ الغرضَ بمقتضى أداة الحصر قَصرُ إرادةِ المولى سبحانه على تطهیر مَن ضَمَّهُمُ الکِسَاء عن کُلِّ ما تَستقذِرُه الطِّبَاع ، و یأمر به الشیطان ، و یَحقُّ لأجله العذاب ، و یُشِینُ السُّمْعَةَ ، و تُقتَرفُ بِه الآثامُ ، و تَمُجُّه الفِطرَة ، وَ تسقُطُ به المُرُوءَة .